استحوذَتْ قضية "جزّار مُعتقل الخيام" العميل عامر إلياس الفاخوري، على الاهتمام اللبناني والأميركي، وتداخل فيها المحلي والإقليمي والدولي.
كثُرَتْ الأحاديث، ونُسِجَتْ "السيناريوهات"، وصدرَتْ المواقف، التي تداخل فيها السياسي والشعبوي، وتباينت التفسيرات القضائية والقانونية.
من حق ضحايا العميل الفاخوري وعوائلهم الاقتصاص منه بالإعدام، لكن كيف خرج؟، وأين الثغرات؟، ومَنْ يتحمّل مسؤولية ذلك، من أجل عدم تكرار التجربة في ملفات، يُمكن أنْ يستفيد الجُناة من ثغرات ينفذون منها؟.
أسئلة عديدة ومُتنوّعة ومشروعة.
ما أنْ أصدرَتْ "المحكمة العسكرية الدائمة" في بيروت برئاسة العميد الركن حسين عبدالله، وعضوية المُستشار المدني القاضي ليلى رعيدي، والمُستشارين العسكريين: العقيد الركن شادي نخلة، العقيد هيثم الشعار والعقيد إلياس أبو رجيلي، حكمها، يوم الإثنين في 16 آذار/مارس 2020، بكفِّ التعقّبات عن العميل الفاخوري، حتى تعرّض أعضاء هيئة المحكمة لهجوم عنيف، لكن تركّز "القصف" على العميد الركن عبدالله، وصولاً إلى "تخوينه".
اختار العميد الركن عبدالله يوم الجمعة في 20 آذار/مارس، للتنحّي من رئاسة "المحكمة العسكرية" ببضع كلمات، قال فيها: "احتراماً لقسمي وشرفي العسكري، أتنحّى عن رئاسة المحكمة العسكرية التي يُساوي فيها تطبيق القانون:
إخلاء عميل
ألم أسير
تخوين قاضٍ"..
ما هي حقيقة ما جرى؟، وما هي الحيثيات التي رافقت هذا الملف؟، هو ما وقفت عليه "اللـواء"، في مُواكبة الظروف التي رافقت توقيف ومُحاكمة العميل الفاخوري، وإصدار كف التعقبات بحقه، حتى تهريبه من لبنان عبر السفارة الأميركية في عوكر.
حظيَتْ بالاهتمام المعلومات المُتعلِّقة بالعميل الفاخوري، وما تضمّنته مع خفايا مُتعدّدة الجوانب، كان العديد منها خافياً على الكثيرين، لكن الأسرى المُحرّرين، كانوا يعرفون ويتناقلون أخبار "تفنّنه" بشتى أنواع التعذيب في "مُعتقل الخيام"، الذي افتتحه العدو الإسرائيلي في نهاية العام 1984 وبداية العام 1985، مع إقفال "مُعتقل أنصار"، بعد اندحار الاحتلال عن المنطقة، وإبقاء سيطرته على المنطقة الحدودية.
لقد مارس العميل الفاخوري شتى أنواع الضغوطات والتعذيب ضدَّ العديد من أبناء المنطقة الحدودية لإجبارهم على التعامل مع العدو الإسرائيلي، وأقدم على اعتقال الكثيرين ممَّنْ رفضوا ذلك، وزجّهم في "مُعتقل الخيام".
في المُعتقل مارس وأشرف على التعذيب، منذ طليعة الأسرى الأوائل، الذين زُجّوا فيه، وحتى آخر مُعتقل حمل الرقم 7763، وكان من نصيب ملاك إبراهيم حرب، التي اعتُقِلَتْ يوم 16 أيّار/مايو 2000، ونالت الحرية مع الأسرى يوم تحرير المُعتقل في 23 أيّار/مايو 2000، فاستحق عن جدارة لقب "جزّار مُعتقل الخيام".
أفضت الجرائم التي ارتكبها في المُعتقل إلى سقوط شهداء، يتحمّل بشكل مُباشر المسؤولية عن 3 منهم، هم: إبراهيم أبو عزّة وبلال السلمان خلال "انتفاضة الأسرى" في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، وطلبه من العميل أنطوان يوسف الحايك "زت" قنبلة دخانية باتجاه غرفة الأسرى، ما أدّى إلى استشهاد أبو عزّة والسلمان.
وقبل ذلك، أمره بتعذيب الأسير علي عبدالله حمزة، قبل تعليقه على عمود وسط ساحة المُعتقل، عشيّة استشهاده يوم 10 آذار/مارس 1986، وأخذ جثّته في صندوق سيارته، حيث ما زالت مفقودة!
خياران في ملف العميل الفاخوري!
عندما حُوِّلَ ملف العميل عامر الفاخوري إلى "المحكمة العسكرية الدائمة" في بيروت، كان رئيسها العميد الركن عبدالله يتعامل مع هذا الملف، كواحد من آلاف الملفات التي نظرت أو تنظر المحكمة بها، - أي النظر إليها لجهة المواد القانونية المنصوص عنها في أصول المُحاكمات الجزائية المعمول بها في لبنان.
لكن من خلال ما حَظِيَ به هذا الملف من اهتمام وأحدث ضجة، كان يعلم العميد الركن عبدالله أنّ هذا الملف حسّاس، وفق التُهَم المُوجَّهَة إلى العميل الفاخوري بجرائم التعذيب، فكان أمام خيارين:
1- التنحّي عن النظر به.
2- استمرار السير به في إطاره القانوني.
وهو فضّل الخيار الثاني.
في حديث العميد الركن عبدالله أوضح أنّ "قرار التنحّي يُعتبر هروباً من المسؤولية، ما يعني أنّه تخاذلٌ وضربٌ لهيبة المحكمة العسكرية ورئيسها، ومنذ أنْ تولّيتُ رئاسة المحكمة، قبل حوالى 4 سنوات، نظرتْ المحكمة بملفات خطيرة جداً".
ونفى العميد الركن عبدالله تعرّضه شخصياً لأي ضغوطات، قائلاً: "كان همّي القيام بواجبي كرئيس لـ"المحكمة العسكرية" بكل حيادية، وعدم التأثّر حتى بعاطفتي الشخصية، وأنا من بلدة الخيام، التي عانت من ظلم وقهر الاحتلال وعملائه والمُمارسات التعسّفية التي ارتُكِبَتْ ضد أبناء الجنوب، لكن لم أتأثّر بالعاطفة الشخصية بملف قضائي".
عقد جلسة المُذاكرة
عن عقد جلسة مُذاكرة لهيئة المحكمة، على الرغم من حالة التعبئة التي أعلنت عنها الحكومة، ما ينسحب على توقّف عقد جلسات المحكمة والتحقيق، أوضح العميد عبدالله "لقد صدر تعميم عن وزيرة العدل ماري كلود نجم، قضى بتعليق الجلسات في المحاكم والدوائر القضائية فقط، لكنه أبقى على استمرارية البت بالطلبات، والمُراجعات القضائية الجزائية، وطلبات تخلية سبيل الموقوفين، والتي تُتّخذ في غرف المُذاكرة وليس على قوس المحكمة، ولم يكن لعقد جلسة المُذاكرة أي علاقة بقرار إقفال "مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي" أو غيره، بل تمَّ تحديد موعد الجلسة بتاريخ 16/4/2020، وإثر ذلك تقدّم وكلاء الدفاع عن الموقوف الفاخوري بطلب تقريب موعد الجلسة من أجل التقدّم بدفوع شكلية مُرفقة بتقرير طبي بناءً لطلب قاضي التحقيق في بيروت بلال حلاوي، يحدّد عدم إمكانية استجواب الفاخوري لحالته الصحية الحرجة، حيث يُعالج من سرطان في الدم، وتمّت المُوافقة على تقديم وكلاء الدفاع دفوع شكلية، بمرور الزمن العشري.
سطّرت المحكمة استنابات عدّة إلى مُديرية المُخابرات في الجيش اللبناني والمُديرية العامة للأمن العام ووزارة الداخلية من أجل تزويدها بالمعلومات المُتوافرة لديها حول إخفاء الأسير علي عبدالله حمزة، إضافة إلى كتاب مُوجّه إلى دائرة قاضي التحقيق في بيروت بلال حلاوي، لإيداعنا نسخة عن التقرير الطبي بوضع الموقوف الفاخوري، وجرى تأجيل الجلسة إلى يوم الخميس في 12 آذار/مارس 2020 من أجل دراسة وبت الدفوع الشكلية المُقدّمة، لكن في هذا التاريخ لم تكن قد وردت إلى المحكمة كامل المُستندات المطلوبة للبت بالدفوع الشكلية، فجرى تأجيل الجلسة إلى يوم الخميس في 19 آذار/مارس 2020، لكن بتاريخ 13/3/2020، أصدرت وزيرة العدل تعميماً جديداً بتمديد تعليق الجلسات أسبوعاً إضافياً حتى 20/3/2020 - أي إلى ما بعد موعد الجلسة الذي حدّدناه سابقاً، فإلتأمت هيئة المحكمة في غرفة المُذاكرة صباح يوم الإثنين في 16/3/2020، للبت بالطلبات المُقدّمة إليها في قضايا عدّة، وبينها القضية التي تتعلّق بالموقوف الفاخوري.
في هذه الجلسة كان قد ورد إلى المحكمة التقرير الطبي الرسمي الذي كنّا قد طلبناه من دائرة الرئيس حلاوي، واطلعنا عليه، فأكد حالة الفاخوري، وجاء في نصّه الحرفي المُؤرّخ بتاريخ 18 شباط/فبراير 2020:
"بناءً لتكليف قاضي التحقيق في بيروت بلال حلاوي، نحن الطبيبان الشرعيان الدكتور عدنان دياب والدكتور شربل عازار، بعد الاطلاع على ملف الوضع الصحي للمُدّعى عليه عامر إلياس الفاخوري في "مُستشفى سيّدة لبنان"، صباح الخميس في 14 شباط/فبراير 2020، تبيّن أنّ مرضه لا يتجاوب بشكلٍ مُرضٍ مع العلاجات، وتطوّر حالته المرضية غير مطمئن، وهو بحالة صحية مُتردية بشكل عام، ووضعه يدعو للقلق".
كما وصل جواب مُديرية المُخابرات في الجيش اللبناني رقم 1407/م/م/د/س تاريخ 11 آذار/مارس 2020، بناءً على تكليف المحكمة بتزويدها بالمعلومات عن علي عبدالله حمزة تمهيداً للبت بالدفوع الشكلية، حيث ورد بأنّه تتوافر في محفوظات مديرية المُخابرات المعلومات التالية حول القضية في حينه: "إنّ المعتقل علي عبدالله حمزة توفي في العام 1985 داخل سجن الخيام من جرّاء تعرّضه للتعذيب من قِبل العملاء، وإنّه في 21/3/2006 استُدعِيَ إلى مُديرية المُخابرات العميلان السابقان فؤاد عبلا وفؤاد أبو سمرا حيث نفيا مُشاركتهما بتعذيب حمزة حتى الموت أو معرفتهما بمَنْ أقدم على ذلك أو مكان دفن جثته".
وأيضاً من جواب المُديرية العامة للأمن العام رقم 8835/ س تاريخ 11/3/2020، إنّ المعلومات المُتوافرة لديها تُفيد بأنّ "علي حمزة تمَّ اعتقاله عام 1986 من قِبل العميل الأمني في "ميليشيا لحد" حسين عبد النبي، وتمَّ نقله إلى "مُعتقل الخيام"، وبعد فترة أبلغ بعض المعتقلين المُفرج عنهم ذويه بأنّ ابنهم علي حمزة قد استشهد بعد تعرّضه للتعذيب وربطه على عمود في ساحة المعتقل".
حيث يتبيّن من كل ما تقدّم أنّ المعتقل علي حمزة قد استشهد داخل المعتقل في حينه، ونُقِلَ جثمانه الى مكان مجهول، وبالتالي تبدأ مدّة مرور الزمن على جرم المادة 569 عقوبات المنسوب الى الُمتهم من هذا التاريخ، وقد مرَّ حتى تاريخ المُلاحقة ما يتجاوز الثلاثين عاماً، ويقتضي بالتالي إعلان سقوط دعوى الحق العام بالنسبة الى جرم المادة 569 عقوبات لمرور الزمن العشري.
وفي ضوء كل ما تقدّم، يقتضي قبول الدفع الشكلي لمرور الزمن العشري بالنسبة إلى الجرائم المُسندة إلى المُتهم وإعلان سقوط دعوى الحق العام.
وتمَّ البت بالدفوع الشكلية، التي كان مُفوّض الحكومة لدى "المحكمة العسكرية" القاضي بيتر جرمانوس ترك للمحكمة تقدير الحكم.
وقرّرت هيئة "المحكمة العسكرية" في ختام جلسة المُذاكرة بالإجماع "قبول الدفع بمرور الزمن وكف التعقّبات عن المُتهم عامر الياس الفاخوري بالنسبة الى جرائم المواد 549 و201/549 عقوبات لسقوط دعوى الحق العام بمرور الزمن العشري سنداً للمادة 10 أ.م.ج. وإطلاق سراحه فوراً ما لم يكن محكوماً أو موقوفاً بداع آخر".
لم أتعرّض لضغوطات
نفى العميد الركن عبدالله ما جرى ترويجه وتناقله "بأنّني أبلغتُ بعض الجهات عن التعرّض لضغوطات خارجية لا أستطيع مُقاومتها، وأنّه طُلِبَ منّي الاستقالة أو التنحّي عن هذه القضية، وذلك لا أساس له من الصحة، بل استندنا في هيئة المحكمة إلى المواد القانونية، ولم يكن بالإمكان الخروج بغير هذا القرار".
وأبدى رئيس "المحكمة العسكرية" تمنياً بأنْ "تكون هذه القضية، وما آلت إليه، مدخلاً لتعديل النصوص القانونية المُتعلّقة بجرائم الحرب، وضد الإنسانية، والعمالة والإرهاب، بما يكفل عدم تقادمها بمرور الزمن، لأنّه لم يكن مُمكناً لهيئة المحكمة، أنْ تتّخذ قراراً يُشكّل سابقة بمُخالفة ما استقرّت عليه الأوضاع القانونية، نسبة إلى هذا النوع من الجرائم، لجهة تقادمها بمرور الزمن، وهو ما يخرج عن صلاحية المحكمة، ويدخل في مجال عمل السلطة التشريعية، ولا يُمكننا أنْ نأخذ عمل السلطة التشريعية".
وشدّد العميد الركن عبدالله على أنّ "قرار التنحّي لاحقاً من رئاسة المحكمة كان ذاتياً بالمُطلق، بعد ما لمسته من ردود فعل من الصعوبة الاستمرار معها في موقعي، ولم أستقل أو أتنحَ من مسؤولياتي قبل ذلك، عن النظر بملفات وقضايا خطيرة وكبيرة ولها حساسية أكبر، لأنّني لم أتعوّد يوماً الهروب من تحمّل المسؤولية".
إلغاء الملحقية العسكرية
خلافاً لما جرى تداوله بشأن أنّ العميد الركن عبدالله اتخذ قراره من أجل تعيينه مُلحقاً عسكرياً لدى سفارة لبنان في ألمانيا، فإنّ هذا القرار كان قد اتُّخِذَ منذ العام الماضي، وفي ضوء قرار مجلس الوزراء بتقليص تمثيل المُلحقين العسكريين، والابقاء عليه في سفارات الدول الخمسة الكبرى، فإنّه جرى إلغاء منصب المُلحق العسكري في ألمانيا، وذلك قبل إصدار المحكمة الحكم في قضية العميل الفاخوري.